الخرطوم :علاء الدين محمد علي
9 أعوام بالتمام والكمال، مرت منذ أن ودع الدنيا أسطورة الفن الشبابي بالبلاد، محمد عبد العزيز، 9 أعوام كان يجب أن تكون كفيلة بإزاحته من على رأس مطربي البلاد، خاصة في وطن متقلب المزاج ومتبدل الأحوال مثل الذي نحن فيه، لكن شيء من ذلك لم يحدث إذ بقي الحوت متمدداً في الأذن السودانية بشكل خذل كل توقعات من اعتقد بأن ثمة خليفة يجب أن يستلم راية الساحة الفنية بعد وفاة (سيدا) الذي احتفظ وضمن استمرار الاحتفاظ بمكانته رغم خروجه جسدياً عن حلبة السباق.

صورة وصوت
ما ألفه المتلقي السوداني بعد وفاة أي من رموزه الفنية، أن يبدأ الفنان في التنازل عن مكانته التي كان عليها ابان حياته، ولو بصورة جزئية بأن يبقى موجوداً كصوت، وتسمع أغنياته عند محبيه أو عبر الوسائط المختلفة، لكن عند محمود فالأمر أخذ منحى آخر بسيطرته على المشهد بالصوت والصورة أيضاً، ولعل أكثر ما يؤكد هذا الأمر أن صور الحوت هي الأكثر انتشاراً وسط صور جميع الرموز بشتى توجهاتهم سواء أكانوا سياسيين أو رياضيين فضلاً عن الفنانين، وبنظرة على زجاج المركبات العامة و(الركشات) والمحال التجارية المختلفة يمكن الوقوف على هذه الحقيقة إذ أن صور محمود تتخذ كخيار أول عند غالبية المنتمين لهذه الفئات، لتمضي سيطرة الصورة جنباً إلى جنب مع سيطرة الصوت على اعتبار أن الحوت ما زال محتفظاً بمكانه كملاذ أول لمن أراد الاستماع لأغنيات سودانية. سيطرة مطلقة بطبيعة الحال فإن الموت يقطع تواصل إنتاج الفنان، ما يجعل معجبيه يدورون حول أغنياته القديمة ردحاً من الزمان ثم يبدأ في الانحسار بسبب عدم وجود منتوج فني يجذب فئات أخرى، أو يحافظ على شغف الفئات التي تعجب به، لكن الأمر مختلف في حالة محمود عبد العزيز، إذ أن موته وتوقف الجديد من إبداعه لم يؤثر بأي شكل من الأشكال على شكل حضوره في الساحة الغنائية وسيطرته المطلقة عليها، وبكل الأحوال يمكن القول أن الصوت الأول الذي ينال اهتمام السواد الأعظم بالبلاد ما زال هو الحوت المتوفي قبل 9 أعوام، وجميع المؤشرات تصب في منحنى أن هذا الأمر سيتواصل وأن محمود لن يتنازل عن موقعه.

محاولات فاشلة
المكانة التي وصل إليها محمود كانت وما زالت مغرية لأي فنان، من واقع أن النفس البشرية دائماً ما تحدث صاحبها للبحث عن المراتب الريادية في أي مجال هو فيه، وهو ما انسحب على عدد كبير من الفنانين الذين منوا أنفسهم لأن يكونوا خلفاء للحوت، ومنهم من رأى في نفسه إمكانية تحقق الأمر لكنه فضل الصمت بسبب الخوف من تبعات المجاهرة بفكرة مثل هذه، ومنهم من كان واضحاً على قرار شريف الفحيل الذي أسر بعيد وفاة الحوت بأنه خليفته القادم، وبين الصامتين والمجاهرين باءت كل المحاولات بالفشل، وتأكد بياناً بالعمل أن الأمر صعب للغاية إن لم يكن من سابع المستحيلات، ليدور الأحياء في فلك من النجومية والجماهيرية هما أقل بكثير من التي يتربع عليها محمود عبد العزيز حتى بعد خروجه الجسدي من هذه المنافسة. تأثير الحواتة احتفاظ الحوت بمقعده رغم موته لم يجيء من فراغ، فالراحل لم يكن مجرد مطرب يؤدي أغنياته ويذهب إلى حال سبيله بل كان عبارة عن أيقونة شعبية تجتمع حولها فئات المجتمع باختلاف توجهاتهم، بعد أن حمل في صوته رسائل ومعاني جليلة، وتعدى ذلك إلى مسافة أبعد هي المشاريع الخيرية والأعمال الإنسانية عبر مجموعتي محبيه، محمود في القلب وأقمار الضواحي، ولعل تأثير المجموعتين بشكل خاص والحواتة بشكل عام كان إيجابياً للحد البعيد في استمرار المد الحوتي رغم وفاته، فالمشاريع مستمرة، بل وحتى الحفلات أيضاً ما زالت تقام من وقت لآخر، تحت شعار (الفرقة تعزف والجمهور يغني) وهي الحفلات التي أصابت نجاحاً كبيراً وأسهمت بصورة جزئية في سد الفراغ الذي تركه الراحل.

وهبي يعلل
الحواتي المعتق والناقد الفني محمد فرح وهبي تحدث للصحيفة معللاً الأمر بقوله : محمود هو بطل السودانيين الشعبي الأول وأكثر الشخصيات المؤثرة لما يقارب الثلاث عقود من الزمان، هو بمثابة أب روحي أو قامة روحية منحت أجيالاً كثيرة من أبناء وبنات السودان معنى للحياة والحب والأمل، وتابع مؤلف كتب سارق الضوء الذي تناول بالتوثيق والنقد مشوار الحوت: هو حي أكثر من أحياء يمشون بين الناس لأنه قدم فناً صادقاً وقويا من القلب، وزاد وهبي :حياة السودانيين وتحديداً أجيالهم الحديثة من منتصف الثمانينات وحتي لحظتنا هذه التبست بصوته لذلك لا يوجد فرق كبير بين أي منهم ومحمود، كل واحد يشعر أنه محمود وأنهى مدير المكتب الإعلامي للراحل في وقت سابق إفادته بالقول :هذا الأمر لم يكن تماهيا مرضياً معه كحالة بقدر ما إنه التباس صوت واحد ومصير واحد ووطن وذاكرة.
المزيد من الاحداث
اتكاءة
السودان والضمير الغائب!
شهد